حينما كنا صغارا"، أذكر أنه كان للسنة أربعة فصول ، لكل فصل منها طعم خاص .. و نحن نتهيأ له ، سواء بالمزاج أو اللباس .. فكان لموسم الشتاء طعم مميز ، فما أن ينسحب فصل الخريف بمزاجه المتقلب ، و غباره و رياحه العابثه ، حتى تهل علائم الشتاء .. و يكون للشتوة الأولى طقوسها ، فنخرج إلى الشوارع و الساحات حتى نبتل بحبات المطر ، و نحن ننشد : اشتي و زيدي بيتنا حديدي .. و يكون عبث الطفولة ممزوجا بفرح الكبار ، و هم ينطقون بعبارات الشكر ، و يتبادلون السلام و التحية .. كان للأرض رائحة مميزة و هي تنتشي بشرب ماء المطر ، و كان الطين يصبغ الساحات بحنائه الأحمر . و كانت المدينة تحتفل بهطول المطر ، و الناس تعلوها سكينة و تدب فيها حياة ، نحو المخابز و سوق الخضار بما يزدان به من خضار ..
كنا نتحضر للشتاء ، بالبحث عن ما خبأته الأمهات من اللباس الشتوي ، و نفتش " السدة" لنجد " الجزمة " التي بها نعبر الطريق و مجمعات الماء .. و كانت العائلة تجتمع حول الموقد و نحن الصغار نراقب كيف يستحيل الحطب جمرا .. و كيف تومض الجمرات ، مصدرة شررا ، كأنما هو ألعاب نارية .. إلى أن تغفو تلك الجمرات .. أو تكاد تتلاشى بالرماد .. فيأتيها المدد بالنفخ .. فتدب فيها حياة ..
كان " كانون " النار يجمع من حوله الأسرة و السمار من الجيران .. و كان الكانون يحتضن ابريق الشاي ..
كانت الجدات يتغلبن على طول ليل الشتاء بالحكايا و القصص .. و كانت المزاريب تدفق ماءها .. بايقاع جميل ، و هي مشتاقة للماء بعد طول انتظار ..
كان فصل الشتاء موسم فرح ، ينظر فيه الناس و المزارعون الى السماء .. فيحمدون الله .. و يستبشرون بالغيث ..
.. أما في هذه الايام ، و مع تداخل الفصول .. فقد الشتاء بهاءه .. و أصبحننا نهرب منه و من حبات المطر التي لوثتها شوارع المدينة .. و أصبح الشتاء ضيفا غير مرحب به .. بل أصبح كابوسا نتوقعه من متنبىء الأرصاد .. و كلما جاء موعد خير و هطل .. أسميناه بغريب الاسماء .. عاصفة هدى و عاصفة كذا و كذا .. و كلما نزل المطر تعطلت فينا الارادة .. و جلسنا ننتظر إعلان العطلة و الكسل .. و أصبح توقف المطر يعلنه المذيع الأبله : يطرأ تحسن على الطقس ، و لا يعلم أن التحسن بنزول المطر ..
سامحهم الله من أحالوا موسم الخير إلى كابوس .. و بث مباشر !!
- أحمد المثاني -
شاهد المزيد