الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13].
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85].
وقال تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89].
والصفح ترك المؤاخذة، وتصفية القلب ظاهراً وباطناً، ولقد دعا الله جل وعلا إلى الصفح ووصفه بالجميل، فقال سبحانه وتعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]. وَالصَّفْحُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لا عِتَابَ مَعَهُ؛ كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والصفح أبلغ من العفو، ولذلك قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].
قال الكفوي: «الصّفح أبلغ من العفو؛ لأنّ الصّفح تجاوز عن الذّنب بالكلّيّة واعتباره كأن لم يكن، أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاط اللّوم والذّمّ فقط، ولا يقتضى حصول الثّواب».
وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم أيما تمثل؛ بل كان صلى الله عليه وسلم موصوفاً بالصفح والتجاوز؛ كما روى الإمام أحمد وغيره وأصله في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لمّا سُئِلَت عن خلُق رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح».
وكان من صفحه الكريم ما فعله يوم فتح مكة كما روى البيهقي في سننه: أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ – أي كفار مكة -: «مَا تَرَوْنَ أَنِّى صَانِعٌ بِكُمْ؟». قَالُوا: خَيْرًا. أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ».
كما أمر الله المؤمنين مِن عباده بالعفو والصفح ووعدهم بالرحمة والمغفرة إن هم فعلوا ذلك.
قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].
وقال سبحانه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14].
إنّ العفو والتجاوز لا يقتضِي الذّلَّةَ والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لاسيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة.
وكان الصفح مِنْ أخلاق مَنْ سلف من الصحابة والتابعين؛ كما روى البخاري في صحيحه معلقاً حيث قال: وذُكِرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله: «كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا».
وقال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما: «لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه، واعتذر في أُذني الأخرَى، لقبِلتُ عذرَه». [الآداب الشرعية لابن مفلح 1/319].
وقال الفضيل بنُ عياض رحمه الله: «إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ، ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تُحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان». [أدب المجالسة لابن عبد البر 116].
وقال الْخَلِيلُ بن أحمد:
سَأُلْزِمُ نَفْسِيَ الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ ***** وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إلَيَّ الْجَرَائِمُ
فَمَا النَّاسُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ ***** شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ
فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ ***** وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ
وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَأَحْلُمُ دَائِبًا ***** أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لَائِمُ
وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا ***** تَفَضَّلْتُ إنَّ الْفَضْلَ بِالْفَخْرِ حَاكِمُ.
فهذا خلق الصفح الذي أمرت به الشريعة؛ وتلك نماذج من صفح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ وذاك ما امتثل به الرعيل الأول؛ فهلا عاد هذا الخلق الكريم الذي كاد أن يندثر في حياة الناس؛ ويمتثله الذين ينتسبون لهذا الدين القويم؛ ليكون نبراساً لمن لا يعرف حقيقة الإسلام ويكون سبباً في هدايته ومحبته لهذا الدين.
المصدر :أ محمد الانصاري مع التصرف والعنوان ليس للانصاري.
المصدر :أ محمد الانصاري مع التصرف والعنوان ليس للانصاري.
شاهد المزيد